" كأننى ارقص غير عابئة بما يجرى من حولى فى
مكان واسع – ارض واسعة- تكاد تكون خاوية تماما ، ليس فيها من شىء بالكاد ارى لها
من نهاية ، و كأننى كنت احاول ان احلق برقصتى للأعلى كطير يتعلم الطيران ، و حين
اوشكت قدماى ان تكون مرتفعة تماما ، أٌجد المكان من حولى قد بدأت تتكون له جدران ،
اراها قد بدأت تبنى من حولى حتى اكتملت تماما ، حتى انها بدأت تشغلنى عما كنت افعل
، احاول الطيران مرة اخرى بيداى و لكن دون جدوى فقد بدأ الخوف يدب فى كل حركة لى ،
كلما رأيت تلك الجدران على جانبى تقترب منى اكثر ببطىء و لكنها مستمرة فى التقدم
كأنها تتوغل اكثر ، تريد ان تسيطر على ، فأعود لانظر الى الامام غير مبالية بما
يحدث لها ، على بعض بضع خطوات منى و فى نهاية هذا الطريق، ارض واسعة ، اناس تعودت
رؤيتهم ، اعرفهم جيدا ، يمرون فيها كأطياف بشر . لا يعيقهم شىء فيما يفعلون من
فوقهم تمر تلك السحب البيضاء كالطيف هى الاخرى لا شىء يضاهى جمالها فى هذة اللحظة
، فأعود لأحاول الطيران كى اصل اليها من جديد، و لكن بدأت لأشعر ان روحى منذ الآن
مقيدة....محاسرة داخل تلك الجدران أصبح من
الصعب على التحرك....من الصعب على ان احلق....من الصعب على ان اطير، لم يعد يملىء
المكان الأن سوى فراغ الليل و عتمته . سواده الاعظم. غيوم تتسرب كل لحظة إلى اكثر
و تمضى كما انا امضى محاولة الهروب من
سيطرتها على و كأنها ترغب فى الانقضاض على و لكن باتت حركتى اثقل، جناحى اعجز، فقط
احساس بثقل حركتى ،ان ما يحدث لى الأن يمر مثل
مشهد بطىء ،بدأ هو الاخر يسيطر على الصورة من حولى و فى كل لحظة يتسرب الى اكثر يمسك بكل جزء من جسدك الذى بات منذ لحظة اضعف و
اثقل....فأشعر بالحركة اثقل و اثقل ، احتاج الآن لمجهود مضاعف لاستطيع التقدم ثقل
اقرب الى الشلل التام شعور قاتل ...
احاول ان امنع بيداى العاجزتان تلك الجدران عنى ، اتمنى لو استطيع تحطيمه
بضرباتى الضعيفة و لكن قوته كانت هى الاقدر على انه يضيق بى اكثر ،اشعر
بالاختناق و الخوف اكثر ، فى ظلمته و كأن شىء يتحرك ورائى تماما يحاول الوصول إلى
، اخشى ان يكون هو الاخر يريد التهامى خطواته المتلاحقة تربكنى اكثر فتخر قواى
اكثر و اكثر و اشعر انى سأقع من شدة الرعب و الفزع ، احاول الا انظر خلفى و اجاهد
ربما استطيع التقدم و لو خطوة واحدة لم يبقى لى سوى تلك الحركة الباهته ، ارتعش ،
لقد بدت لى يد تمتد للامساك بى ، فحاول ان امر فى هذة المكان الذى بات اضيق حتى من
ان يتسع لاستيعاب حيز وجودى فلا شىء يوقفه ، بدأت اشعر و كأنه يكسر عظامى فصوت
تكسيرها بدأ يرن فى اذنى ، الأن و قد تغيرت الصورة تماما من امامى كل من كانوا
هناك باتت صورتهم مشوشة اكثر ، لا استطيع تميزها و قد بدأت فى ان تتداخل و كأنها ستتلاشى
قريبا ، احاول ان اصرخ ربما سمعوا بى ، و استطاعوا ان ينقذونى مما انا فيه الآن
" انا هنا " أنا هنا " "هلا تنقذ" ، " انا ......
إن صوتى هو الاخر لا يبدو ظاهرا لن يسمعنى احد ، لن ينقذنى احد ، و قد بات ذلك
الشبح يبدو واضحا اكثر لى على بعض خطوات بسيطة عنى ، ربما هى خطوة واحدة و يقبض
على و ينهينى تماما ، ما هذا الحال ، ربما اموت حتى قبل ان يصل إلى فلا يمكن تحمل
الأمر اكثر من ذلك ، انه هو ملامحة مخيفة و مشوهة تماما يداه القابضتان تقترب اكثر
، حينها حاولت ان التقط انفاسى اسرع كى احاول الصمود ، لن اعد قادرة ، انه هنا يده
تكاد تمسك بذراعى ، لا اقدر على المقاومة ، لا استطيع البقاء ،لا
...لا....لا......ااااااه"
فى تلك اللحظة التى ظننت اننى انتهيت تماما و قد تلاشت كل الصور من امامى و
اصبحت سواد مظلم و ساد الصمت القاتل، فأفتح عيناى . وأجد نفسى جالسة على هذا
السرير و قد استجمعت كل قواى لأجلس هكذا و تتلاحق انفاسى و دقات قلبى ، رأسى
تألمنى ، قد انقبض صدرى ، احاول ان ادرك ما انا عليه الآن .فاجد نفسى وقد كنت احلم
، فأتذكربما تبقى لى من إدراك انه ذلك الكابوس الذى لا يتخلى يوما عن زيارتى طيلة ليلاتى
السابقة، و ها هو يأتى اليوم إلى ايضا. و فى كل مرة احاول ان اجد له تفسيرا مغايرا
لما انا عليه ، و لكن اشعر فى كل مرة انه صورة لما يحدث لى الأن فى هذة الدنيا ، و
كأنه اضغاس احلام تراودنى فى كل ليلة ،فتحاول تجسيد ما يدور بعقلى الباطن ، تلك
الحال التى تسيطر على طوال الوقت.
محاولة النهوض عن سريرى لأرى فى اى وقت نحن الآن ، فأنظر من خلال هذة
النافذة التى لا يبدو منها سوى القليل بعد ان كستها تلك التلال من الثلوج البيضاء
التى باتت تحجب الرؤيا لأجد ان الحال لم يختلف كثيرا ، فهنا لا يوجد فرق بين
النهار و الليل من كثرة السحب التى تملىء السماء فوقى فهى لا تبطل ان تمطر او تنزل
ما فيها من ثلوج فتغطى المكان اكثر فأكثر و لكن يعود الشارع و كأنه قد دبت فيه
الحياة مرة اخرى مثل كل صباح و حينها ادرك اننى فى الصباح ، فحركة الناس هنا هى
التى تحدث الفرق ، و إن تلاشوا يكون النهار قد تلاشى معهم ،
لم يكن هذا هو الحال فى بلادى البعيدة التى اود الرجوع إليها مرة اخرى، كان
الناس هناك لا يختلف عندهم النهار أو الليل فى ان يعيقهم عن الحركة فقد كانت
شوارعها مزدحمة اناء الليل و اتراف النهار، لا احد يمل من البقاء خارج المنزل ، لا
احد يخشى الخروج ليلا او التسكع فى شارع فلا يوجد شارع فى بلادنا يشعر بالفراغ مثل
هذة الشوارع الباردة ، كما ان الشمس كانت تزور سمائها فى كل صباح صيفا و شتاءا كنا
نستطيع ان نفيق على ضوئها الساطع و دفئها القوى فى كل صباح دون حاجة للنظر فى
الساعة لنعرف ، او دون حاجة لمراقبة الشارع لنرى بداية الحركة ، كان لبلادى رائحة
وروح خاصة . لا اعلم ان كان ذلك الحال فى بلادى لازال على ما هوعليه ام تغيير. لقد
اشتقت إليها كثير. فأنا لم ارها منذ وقت طويل ، وقد مر على وجودى هنا اكثر من عشر
سنوات. لم اعرف فيها اى شىء عن موطنى الاصلى إلا فى التلفزيون و الذى لم أعد
اشاهدة منذ وقت طويل ، حتى لا تأتينى تلك الذكريات نازحة ، فأبدأ فى الوقوع داخل
بئر الغربة الذى ليس فيه سواى،انا وحدى.
اشعر بالاغتراب تماما ، كان لى بلاد غريبة عن هنا تماما -مثلى تماما- يختلف الناس فيها عن من يعيشون هنا فبيننا فارق
كبير ، لم اعد اعلم الان اى الاثنين هو الأفضل ،لكن ما اعرف الان اننى ارغب فى ان
يعود ذلك الماضى البعيد ، الذى لن استطيع ان اعيده . وإن حاولت. فلا جدوى مما يدور
فى عقلى و لكن لا اقدر ان امنع عقولى عما يدور فيه ، فالعقل هو من يتحكم فيما نفعل
و ليس نحن من نتحكم به ، لقد بات عقلى اكثر قدرة منى على الحركة ، بل بات هو الشىء
الوحيد الذى يتحرك داخلى ، لا شىء آخر فى يملك القدرة على الحركة سواه هو.
هوفقط ، فما لى الآن من فقط البقاء
داخل هذة الحجرة ، اجلس امام تلك النافذة
لاتذكر.
-"مالى لا ارى تلك الصورة التى رسمتها وقتما جئت الى هنا لهذة البلد
؟"
-" ماذا تغير فيها ؟"
- "ربما هى لم تتغير بل انا من تغيرت ؟
-"ربما انا لم اتغير و لكن
ادركت فقط حقيقة الأمر، ادركت حقيقتى. ادركت حقيقة ما فعلت ؟ "
فلطالما كنت مقتنعة بأن المكان لا يتغير و لكن من فيه هو من يتغيرون او
يدركون ، فالمكان لا يملك القدرة على تغير ما فيه ، و لكن من فيه هم فقط من
يستطيعون ان يغيروه ، و يجعلوه مختلف تماما ، لأن المكان لا يملك عقلا ليتحكم او
يسيطر على ما يدور فيه ، و لكن للبشر فقط العقول التى يفعلون بها كل شىء و يغيرون
بها كل شىء ، و لكنهم تحت سيطرة الزمن ايضا ،
فإن كل من حاول ان يفرض صورة على مكان ما قد يغير الزمن حاله فيتغير و لكنه
يترك المكان من حوله على نفس الصورة التى جعله بها ، حتى يأتى من يغيره مرة أخرى .
و اعتقد ايضا ان لكل مكان روحه الخاصة ، التى تجعله يختلف عن غيره .
-"فبلادى تختلف تماما، عن هذا المكان و هذة البلاد البعيدة"
لقد كنا زمان نظن ان هذة البلاد بعيدة فقط لأنها تبعد عنا كل هذة المسافات
، و لكن حين اتيت إلى هنا ، ادركت تماما حقيقة اننا سميناها بعيدة ، ليس فقط لبعد
المسافات و لكن لبعدها عن روحنا و طريقتنا فى عيش الحياة ، فربما نكون نعيش فيها و
لكنها لاتزال بعيدة ، لقد كنت اشعر بنفس هذا الشعور فى بلادى القريبة الى البعيدة
عنى الان ، لقد كنت اشعر انها بلدا بعيدة عنى تماما ، و لكننى ادركت اننى جزءا
منها ، فهى لن تتغيير و لا انا ، لأنى ولدت من نفس روحها ،
"فالروح لا تتغير حتى لو اختلفت الانفس "
مالى اتحدث الآن هكذا لقد كنت استهزىء بكل من كان يحاول ان يخبرنى بها ، و
اظن انه شخصا يستعرض بما يمكله من كلمات و جمل ثقيلة على اللسان .لقد كنت لا اعير
اهتماما لكل هذا ، و لكن على يقين تام بأننى لست قريبة لبلادى و ليس لى فيها ما
يجعلنى انتمى إليها ، حتى اتيت إلى هنا و ها انا الآن اتكلم مثلهم تماما . و لا
اعرف ما الذى تغير حقيقة فى الأمر .
لقد مر على وجودى هنا حوالى عشر سنوات ، ادركت فيها الكثير الكثير جدا ، و
بالامس اتممت عامى العاشر مع هنا . و لهذا
كنت لا اريد ان اتذكر بالامس كم مر من الوقت على هنا فى هذة البلاد البعيدة ، فقد
جئت إلى هنا فى 10 مارس منذ عشر سنوات ، يوم مولدى ، الذى قصدت ان اتى فيه إلى هنا
رغبة منى فى بدء حياة جديدة مع أول يوم لى فى عامى الرابع و العشرون............
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق