
فى داخل حجرة صغيرة داخل بيت قديم بالى تطل نافذتها الوحيدة و الصغيرة و التى باتت مغلقة منذ ان تكدست الثلوج حول اركانها ، تطل على ذلك الطريق الطويل الساكن ، الذى غلفه الليل بظلمة موحشة ،به شجرة كبيرة تسكن بالقرب من المنزل ، هذة الشجرة । التى تساقطة اوراقها على جانبى الطريق و كلما مرت بها الرياح تبعثرت اوراقها بعيدا اكثر ،انها تشبهنى تماما ، و تلك الاوراق من عمرى و التى مرت و لا املك ان اعيدها او الملمها من جديد فما سقط من اوراق باليه لا يعود لينمو من جديد .
فى هذا الشارع ايضا و بين جناحى الليل تخترق العتمة بين حين و آخر بعض الاضواء لسيارات مسرعة ،ومضات تمر امام عيناى فتصدمنى بنور قوى، و مع كل صدمة اغمض عينى ... فتمر على آحداث حياتى التى عشتها فى هذة الدنيا ، بالكاد استطيع ان محاولة إنكار حدوثها و لكن بلا جدوى.
و إن حاولت ان احول عينى دون النظر الى الطريق تداهمنى تلك الجلسة البائسة ، اربعة جدران ، الوانها باهتة ساكنة، رسم على كل منها شرخ قديم بائس مثلى تماما ، هنا اجلس بين هذة الجدران ، مع هذة القطع من الاثاث البالية المتجمدة و كأنها قد تأثرت بحالة الجو من حولى مثلى تماما ، ففى الغرفة سكون تام ، ليس فيه و فى من حياة ، كل ما حولى بائس باهت لا يتغير ، إلا تلك الساعة التى علقت على احد الجدران و التى انا فى اتجاهها تماما ، اجلس على سريرى القديم الذى بالكاد يحتملنى الآن ، أشعر و كأنه بات يكرهنى ، و كأن المكان كله يكرهنى ، بل يمكن ان اقول اننا اصبحنا فى حالة صمت تام ، كل منا يتربص بالآخر ، و كأن الاشياء من حولى تحاول ان تطبق على انفاسى فأموت قبل ان ينتهوا هم ، بتنا بين لحظة و أخرى ينتظر كل مننا من سيموت قبل الثانى . فربما استطاعت تلك الجدران ان تنهار من فوقى فتنهينى بإنها تملك تلك الشروخ التى من السهل عليها ان تجعلها تتصدع فتنقلب الدنيا و يتغير هذا الحال الى آخر .... لا اعلم الى متى سنظل على هذة الحالة الكل فى حالة انتظار ساكن ثابت على طريقته ، و تلك الساعة التى تسكن معنا ، تستطيع ان تلعب دور المحرك للاحداث كلما دقت و لكن فى سكون ، و مع كل دقة تشعرنى بأقتراب لحظة ما لا تأتى ابدا تذكرنى بكل لحظة مرت بى ، تؤرجحنى مع كل حركة بين ذكريات الماضى ، مجهول المستقبل الذى اعيش بينهما فى صمت تام ، صمت قاتل ، "للزمن مفعول سحر فى تقلب الاحوال" ، احوال البشر و الاشياء احوال الكون كله .
اليوم هو عيد ميلادى الرابع والثلاثون ، لم اكن اتذكر فقد فقدت منذ وقت طويل شعور الاحساس بالزمن، غير ان امر حياتى لم يعد يعير اهتمامى كثيرا ، لم اكن اتذكر كم من العمر قد مر بى و لكن منذ ان عرفت ، كما اننى لم اعد اشبه من يماثلونى فى العمر فقد اصبحت أمرأة بائسة عجوز باليه باهتة مثل هذا المكان الذى اسكنه ، فلم يعد لى من أمر افعله فى هذة الدنيا سوى الانتظار ..... الانتظار ليس اكثر ، فقط ما بات يجعلنى غير قادرة على التماسك هو ما مر بى من احداث فى هذة الدنيا لا استطيع انكاره او اخفاءه عن نفسى ، و هذا الحال الذى وصلت إليه بعض كل هذة السنوات ، لا ادرى كم تبقى لى فى هذة الدنيا ؟ و لا ادرى كيف يمكن ان استعيد ما فات ، فما فات لا يعود ابدا؟ .كيف وصلت الى هذة الحالة الآن و كنت اظننى سأقوم بالكثير ، كنت اظن ان حالى لن يكون هكذا يوما ما .
اليوم هو عيد ميلادى الرابع و الثلاثون .
منذ قليل كان هو من جعلنى اعود لأتذكر ، كان هو ذلك البائس الساكن مثل كل ما حولنا يائس منى و مثلى تماما ،لقد سيطر عليه هذا الزمن ايضا ، الزمن الذى وحده يملك القدرة على السيطرة على كل الاشياء تحت قوة مفعوله السحرى المستبد، بات كئيبا غريبا ...غريبا عنى ، لم اعد اعرفه ، و لم اعرفه من قبل ، لم اعد اريد ان اعرفه ، او ارغب فيه ، لا اريد ان اتذكر كيف التقينا و كيف بتنا هنا يحتمل بعضنا الآخر ، نجلس فى ترقب من فينا سينتهى قبل الآخر .لم تعد ملامحه كما هى ، لم يعد تلك الشمس المضيئة التى اضائت لى طريقا كنت اظنه سيخلصنى مما انا فيه ، كنت اضنه طريق المستقبل بالنسبة لى .
بتنا لا نجيد التصنع بالحب والعشق مثل ما كنا ،اصبحانا اثنان غرباء ، لا يعرف كل منهم الآخر ، و ربما يندم كل منا على انه تعرف يوما ما على الآخر، كانت تبدو الحالة واضحة منذ البداية و لكننا كنا نحاول ان نكذب انفسنا ، لنمضى معا فما كان لنا امر سوى هذا لبدىء طريق جديد ، اضننا وصلنا لنهايته بشكل سريع و قوي ، اثنان غرباء فى بيت غريب بشارع غريب و كئيب ، و بلاد غريبة، بلاد بعيدة ، بعيدة عن حقيقتنا تماما ، و لكن يبدو ان كل منا قد استسلم لحال الزمن و رضى ان يبقى فى انتظار حتى النهاية ، النهاية التى لا تآتى ابدا .
-اين كنتى لقد انتظرت على الباب طويلا ؟
-اين مفتاحك ؟
- لقد اضعته....
-................
-اين كنتى الم تسمعى صوت طرقات الباب؟
-...............
-هل اصاب الصمم اذنك و ابكم لسانك؟
-....................................
- لماذا لا تجيبى ؟ ها
حتى صوته تغيير ، صوته الذى كان فيه من الدفىء ما يكفى لاحيائى بعد ذلك البرد القارس الذى كنت اعيشه ، بات اليوم يشعرنى بالاعياء و الخوف الشديد كلما نطق بأى حرف
و بعد لحظة قاتلة من الصمت.
- ماذا بك ، لما لا تجيبى على؟
لقد ماتت رغبتى بالكلام ....فرغ لسانى من لذه التحدث ، بات ملجما غير قادر على النطق بالمزيد حتى اصابه الخرس و الصمت المقيت المسيطر على الكون من حولى ، لم يعد هناك المزيد لاتحدث عنه .
- هل اصابك الخرس؟
-اين الاقراص المنومة.
- فقط عنها تتكلمين ... لم تعودى تتحدثى إلى، إلا لتسألى عن الاقراص ، هل بت مدمنة.
- اخبرنى هل احضرتها
- لا لم احضرها.
- لما لا ، لقد بدأ مفعول القرص الاخير يذهب بعيدا ، و بدأ الصداع يملىء رأسى من جديد
ماذا سسس..أفعل الآن... لماذا لم تحضرها؟
-عليك ان تتخلصى من تأثير تلك المخدرة . فلم يعد هناك من يبيعها ، لانها خطيرة و غير قانونية.
- ماذا سأفعل الآن ؟
- عليك ان تفيقى قليلا من هذة الحالة
- ماذا سأفعل الآن؟
مضيت من امامه دون ان اضيف اى كلمه اضافيه ، " ماذا سأفعل الآن؟" ظللت ارددها الى ان دخلت الى هذة الحجرة ، مقبرتى الخاصة ، كنت ارددها حتى لا استمع إليه و بين كل سكتة كان يردد
-ها انت الأن كعادة كل يوم تدخلين الى غرفتك حين يبدأ اى حديث بيننا ، تكرريين تلك الكلمات ،انت لا تجيدين فعل اى شىء سوى هذا الذى تفعليه كل مرة ،الى متى ستظلين هكذا . لقد اصبحت امرآة بائسة ، عنيدة ، تائهة ، غائبة و غريبة ، الى متى ستكونى على هذة الحالة ، متى سينتهى هذا.
كنت احاول الابتعاد عنه و هو يردد تلك الكلمات التى تشبه حين تخرج من فمه طلقات الرصاص لتصيبنى بحالة من الزعر ، الذى يصيبنى فى كل مرة بنزيف حاد فى اعماقى ، يصعب على احتماله ، و تزيد من احساسى بالرغبة فى تلك الاقراص المخدرة التى تجعلنى اختبىء خلفها فى عالم ليس فيه سوى الهلاوس ، والوهم ، مما يبعدنى عن تلك الحالة من التذكر و التألم الدائم التى اعيش فيها . ربما اكرهه و اكره كلماته التى فيها من الحقيقة ما يجعلنى لا استطيع احتماله ، فمنذ وقت طويل اردت ان اخفى تلك الحقيقة عنى ، راحة و غياب عن ادراك الواقع الذى انا عليه الآن ، ماذا سأفعل الآن ؟ و على الرغم من محاولتى للتخلص من صوته بترديد ذلك السؤال الى اننى كنت فى داخلى لا اعرف ماذا سأفعل الآن فكان الامر يبدو فى البداية حيلة صغيرة الى انه فى الحقيقة سؤال يدور فى عقلى طوال الوقت لا استطيع التخلص من محاولة ايجاد حل عليه ، إشكاليه معضلة اقف دائما امامها دون جدوى و دون راحة ، كان حلى الوحيد فى ان اصاب بحالة من الغياب . فما بقى لى الآن سوى حالة من الغربة و الاغتراب عن نفسى و عن هذا المكان الذى ليس بينى و بينه يوجد اى شىء من التقارب .
فدخلت الى حجرتى البائسة الصغيرة احاول ان الهى نفسى اناقض حالى اوهمنى كما تفعل تلك الاقراص المخدرة و لكن بمجرد مرورى بتلك المرآة البائسة ، و انظر الى صورتى فيها لجده على حق تماما فيما يقول .
أمرآة بائسة تائهة غبية و عنيدة.
" اليوم هو عيد ميلادك الرابع و الثلاثون العاشر من مارس الا تذكرين هذا ايضا؟"
كان يعلم تماما اننى توقفت عن ترديد سؤالى ، و كنت اعلم انه الآن يحاول قتلى بتلك الكلمات ، لم اعلم كيف اختار هذة اللحظة تماما ، و التى كنت حينها اقف امام المرآة اتفقد حالى البائس ، انه يقصد ان يخبرنى بذلك حتى يصيبنى بالفزع لانه يدرك تماما ما هى الحالة التى انا عليها و يعرف تماما اننى ما عدت ارغب بتذكر هذا حتى لا يصبنى الانهيار ، فإنه يعلم منذ فترة اننى بدات اقلق كلما مر الوقت ، و يعلم تماما اننى اكره مرور الوقت . و اكره ان اعرف فى اى عام انا الآن حتى لا تتفجر داخلى تلك المشاعر المقلقة الخاصة بسنواتى التى مدت دون عودة . لقد بدأ ينفذ تلك الخطة القاتلة للتخلص منى سريعا ، قبل ان ينتهى هو ، ربما اراد بعد كل حالات التربص و الترقب بيننا ان يبدأ هو فى انهاء امرى قبل امره .
و لابقى انا امام مرآتى اتفقد هذة الصورة لى و التى لا تتغير إلا للاسوء ، أمرآة باهتة ملئت وجهها التجاعيد من فعل الزمن و الحياة بها ، عينان تشبه الموتى ووجه شاحب و روح تائهة ، و تلك الخصلات الرمادية التى باتت تخطو داخل الظلام فى رأسى لتسطع بنور وهاج يجعلها تبدو ظاهرة واضحة اكثر ، لتذكرنى هى الاخرى بكل ما فيه انا الآن و ما اصبحت عليه ، و ما لا اعرف ماذا يمكن ان افعل .
و بين دقات الساعة وجدران هذا المكان و بين احضان سريرى ، اضاجع الوهم و امارس فعلتى اليومية التى تندو بنفسى اكثر و اكثر، فيعلو صوت انفاسى محاولة الهائى عما يحدث لى فى هذا العالم فيشاركنى ذلك السرير بصوت ضعيف صادرمن هزاته المتلاحقة يحاول مجاراتى حتى استطيع النوم احول ان اجهد جسدى وعقلى بالهروب فى احضان النشوة من نفسى. داخل نفسى و بنفسى . و فى تلك اللحظة و حين تمر اصابعى الضعيفة بين خصلات شعرى الرمادية اعود فادركت الحقيقة ، فأعلم اننى حتى ما عدت املك تلك القدرة على الهروب و لو لوقت قليل قليل جدا فتخر قواى و سريعا ما انهار فأتوقف.لأبقى مثل جثة هامدة شاحبة الوجه منهكة القوى متلاحقة انفاسى مفتوحة عيناى تحلق فى سقف هذة الغرفة المتهالك فى ثبات تام ولكن لا يزال عقلى لا يتوقف فيغوص فى اعماق الافكار و الاسئلة اللا متناهيه دون نوم يتخبط بين سنوات الماضى و مجهول المستقبل نمضى و نجهل تماما ما سيحدث و يبقى السؤال فى داخلى يتكرر
- " ماذا سأفعل الآن؟" "متى ستأتى النهاية؟".
.يتبع.........
مرام عبد المقصود
10مارس2012
Mramahmed_88@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق